في واحدة من أغرب حروب الشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة، دخلت إيران وإسرائيل في مواجهة محدودة لكنها شديدة التأثير، انتهت بإعلان كل طرف انتصاره.. بل لم تتوقف المفارقة عند ذلك، فقد أعلنت الولايات المتحدة على لسان دونالد ترامب، أن واشنطن هي المنتصرة سياسيًا.
فكيف يمكن لحرب أن تنتهي وجميع أطرافها تعلن الفوز؟
وهل هناك طرف خاسر بالفعل، لكن يحاول إخفاء الهزيمة خلف صورة نصر زائفة؟
نعيد في هذا المقال، قراءة الحرب من البداية للنهاية، من زاوية تحليلية دقيقة؛ لنصل إلى إجابة منطقية على السؤال الأهم: من المنتصر الحقيقي؟
إسرائيل: انتصار تكتيكي أم فشل استراتيجي؟
دخلت إسرائيل الحرب بأهداف واضحة لا لبس فيها أهمها:
«القضاء على البرنامج النووي الإيراني بالكامل – تصفية العلماء النوويين – تدمير قدرات إيران الصاروخية – إسقاط نظام المرشد الأعلى خامنئي».
وبالفعل، نفّذت إسرائيل ضربات جوية واسعة استهدفت منشآت نووية ومواقع للحرس الثوري، واغتالت عدداً من العلماء والقادة العسكريين. لكن:
النظام الإيراني لم يسقط، والبرنامج النووي لم يُدمَّر، والمنشآت التي ضُربت أُعيد تشغيلها جزئيًا، والدعم الشعبي للنظام الإيراني ارتفع بشكل غير مسبوق بعد الحرب.
وهكذا، فإن إسرائيل لم تحقق أياً من أهدافها الاستراتيجية الكبرى، وقد تكون كسبت بعض المعارك الصغيرة، لكنها خسرت المعركة الكبرى.
«إيران».. الدولة التي صمدت وردّت وخرجت أقوى
من منظور استراتيجي، تبدو «إيران» هي الطرف الذي خرج من الحرب بأكبر قدر من المكاسب، حيث تمكنت من امتصاص الضربات الأولى، ثم ردت بهجوم صاروخي مكثف تجاوز كل توقعات العالم، وضرب قلب «تل أبيب» لأول مرة منذ قيام الدولة العبرية.
أيضاً هناك وحدة وطنية مفاجئة شهدتها الساحة الداخلية الإيرانية، حيث اصطفت حتى المعارضة خلف القيادة السياسية والعسكرية.
في الوقت نفسه أعلنت كالة الطاقة الذرية، عن فقدان 400 كجم من اليورانيوم المخصب بنسبة 83%، كمية كافية لإنتاج ما يصل إلى عشر قنابل نووية.
البرنامج النووي تأخر أشهر.. لكنه لم يتوقف، ولا يزال العلماء يعملون في منشآت أخرى.
إيران، إذن، لم تخرج فقط بصمودها، بل بموقف تفاوضي أقوى، وبدعم «روسي وصيني» في مجلس الأمن، وتأييد شعبي يُعيد للنظام بعضًا من شرعيته المفقودة.
الولايات المتحدة.. انتصار في الظل
أما الولايات المتحدة، وتحديدًا إدارة «ترامب»، فقد لعبت دورًا محسوبًا بعناية، حيث نفّذت ضربات محدودة على مواقع إيرانية تم إخلاؤها مسبقًا، وتجنبت التصعيد المباشر، وامتنعت عن استهداف منشآت مدنية، وحصلت على مكاسب سياسية كبيرة دون أن تدفع ثمن الحرب، وكسبت تعاطف اللوبي الإسرائيلي واليمين الأمريكي قبيل الانتخابات.
«ترامب» لم يسعَ لإسقاط النظام الإيراني، بل سعى للظهور كزعيم «حاسم» يحمي إسرائيل ويحقق إنجازًا دون خوض حرب استنزاف، وهو ما نجح فيه بالفعل.
لماذا تحتفل إسرائيل إذًا؟
الاحتفال الإسرائيلي بالنصر ليس بالضرورة انعكاسًا للواقع العسكري أو السياسي.. بل يمكن تفسيره كـ«هروب إلى الأمام» من مشكلات داخلية.
النصر «الإعلامي» يمثّل طوق نجاة سياسي، ويمنحه فرصة للمراوغة والهروب من المسؤولية، لكن الصحافة الإسرائيلية نفسها بدأت تطرح تساؤلات خطيرة:
هل كنا مستعدين فعلًا؟ وهل هذه حرب كنا قادرين على خوضها؟
بل إن تقارير أمنية إسرائيلية، كشفت عن استنزاف منظومة الدفاع الجوي بالكامل خلال الأيام الأخيرة من الحرب، وأن الصواريخ الإيرانية الأخيرة وصلت إلى أهدافها دون اعتراض، ما يكشف عن هشاشة غير مسبوقة.
هل الحرب انتهت فعلًا؟
رغم الإعلان الرسمي عن توقف العمليات، لا يبدو أن الحرب انتهت فعليًا.. ما شهدناه كان جولة محسوبة ومحدودة، خرج منها كل طرف بصورة «المنتصر»، لكنه استعد لجولات قادمة أكثر عنفًا وتعقيدًا.
وإذا كانت إسرائيل قد تراجعت تكتيكيًا، فذلك لا يعني أنها تخلت عن أهدافها، بل أدركت حجم الخطر الذي تواجهه، وأن المواجهة المباشرة مع إيران ليست قرارًا يمكن اتخاذه دون ثمن باهظ.
أما إيران، فهي اليوم في موقع متقدم سياسيًا وعسكريًا، لكن هذا الموقع قد يتحول إلى عبء إذا ما استخدمته في تصعيد غير محسوب.
السيناريوهات القادمة
الخيارات المطروحة على الطاولة حاليًا تنقسم إلى سيناريوهين رئيسيين:
1- عودة إلى طاولة المفاوضات، بمبادرة أمريكية، مع تنازلات محدودة من الطرفين لإنهاء حالة اللاسلم واللا حرب.
2- مفاجأة جديدة من إسرائيل، في شكل ضربة عسكرية غير متوقعة، تعيد إشعال الحرب وتوسعها إلى نزاع إقليمي شامل.
وفي كلتا الحالتين، ستكون الأسابيع القادمة حاسمة في تحديد اتجاه المنطقة.
الخلاصة.. في الحرب، لا تُقاس الانتصارات بالشعارات أو الاحتفالات.. بل بمدى تحقيق الأهداف الإستراتيجية، وبالواقع السياسي والعسكري الذي تفرضه النتائج.
لكن ما يجب التوقف عنده هو أن إنهاء الحرب لم يكن بسبب تحقيق الأهداف.. بل بسبب صدمة الواقع العسكري.
لقد وقعت كل من إسرائيل والولايات المتحدة في فخ سوء التقدير، عندما افترضوا أن «إيران» في أضعف حالاتها، وأنها لن تمتلك القدرة أو الإرادة للرد بهذا الشكل المفاجئ والموسع.
الرد الإيراني بصواريخ فرط صوتية، ودقّة الإصابة، وقدرته على شلّ قطاعات استراتيجية داخل العمق الإسرائيلي، كشف هشاشة ميدانية غير محسوبة لدى تل أبيب، وأظهر أن المنشآت العسكرية الحيوية، ومعها الجبهة الداخلية، غير مستعدة لصراع طويل الأمد.
الأمر نفسه انطبق على أمريكا، التي كانت تخشى من توسع الحرب لتشمل قواعدها في الخليج، وهو ما دفعها للضغط سياسيًا لإنهاء المواجهة، مع نية واضحة لإعادة تقييم الموقف والعودة لاحقًا بمقاربة أشد قوة وتحضّرًا.
وبناءً على المعطيات:
إيران خرجت منتصرة في هذه الجولة عسكريًا، وشعبيًا، وسياسيًا.
وإسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها الأساسية رغم القوة التدميرية التي استخدمتها، والولايات المتحدة كسبت سياسيًا دون الانخراط في صراع طويل.
لكن تظل الحقيقة الكبرى أن الحرب لم تنتهِ، وأن الشرق الأوسط مقبل على مرحلة أكثر اضطرابًا مما مضى، وأن النصر الحقيقي سيكون لمن يملك رؤية أبعد من مجرد تفوق لحظي.
كاتب المقال باحث في العلوم السياسية ومحلل في الشأن الإقليمي والدولي